نصوص نُشرت مؤخرا

أن تصبح حجرا

كلامي مع الموتى، حتى ولو كان تلعثمًا، يعني إذن عدم القبول بما أسمعه. يعني قلب وظيفة الأذن بحيث يمكن لأصغر عظام جسدي، مطرقة أذني الوسطى وسندانها وركابها، أن تنقل هذا «الشوق الصامت». إذا كان لا يزال هناك معنى لكلمة «تضامن» فهو يكمن في هذا الشوق العابر للأجيال وللأزمان. تضامن يقاوم زمن رأس المال الخطي، ويربط فجأة بين لحظات تاريخية متباعدة، وجغرافيات ممزقة، وأجيال من المقهورين. تضامن لا يتطاير سريعًا، بل يتكثف يومًا بعد يوم. هل أُصبت بوجع الأذن هذا من قبل؟ على كل حال، ما كنت أرغب في قوله هو أن الكلام بأية لغة أخرى غير لغة الموتى اليوم هو مشاركة في الجريمة المستمرة.


الأيدي العاملة 

قبل قرون طويلة من ظهور الأدب بشكله المعاصر، أي بوصفه كلام الذوات الناشئة من رحم الحداثة، قدمت الخرافة اقتراحًا بأن تكون الكتابة هي إعادة ترتيب الواقع وفقًا للخيال المدفون داخله. فكل ما يستبعده الواقع يدفنه داخله، وكل ما يدفنه داخله يتحول إلى خيال. الأدب وفقًا للخرافة هو كلام من أصبحوا خيالًا. كلام ليس كأي كلام. فما هو بكلام ذوات تروي نفسها، وما هو بشكوى أو مظلومية، بل كلام محدد، ويقوم على طريقة محددة هي الاقتباس.


نزهة قصيرة برفقة حيوان صامت

لقائي مع قطيع الخنازير في ذلك اليوم كان بالفعل يفتقر إلى اللغة المشتركة، لكنه حمل في الوقت نفسه قدرا من القرابة بيننا، رغم اختلاف مواقعنا. فأنا أجلس في قلب المدنية، أعمل صامتا، أقايض وقتي ولغتي بالمال، في حين يغيرون هم على تلك المدنية وعلى لغتها، ويعيثون فسادًا فيها مخاطرين بكل شيء. في هذا اللقاء، وفي كل اللقاءات المماثلة التي تلته مع حيوانات أخرى تسكن الأخبار، كنت أستمتع بانقطاع سيل العمل والدخول في حلم يقظة جديد.


أمل ضعيف لا يفنى (في ذكرى الصديق أسامة الدناصوري)

الأمل الحقيقي هو عملٌ يأتي بعدما كنّا نظن أن العمل قد اكتمل، ويندفع من وراء ظهر ما نكتبه أو نقرأه بعناد، مصرّاً على رفض الانصياع لما هو قائم، مهما بدا ذلك عبثياً. إنه أمل عدميّ، ينضج ببطء على نار خيبته وفشله. هذا الأمل العدميّ الذي يتقنه «المرضى»، هو مباهجهم التي لا يعرف الأصحاء عنها شيئاً، وهو ما يمكننا أن نتعلمه من كتاب أسامة الدناصوري.


رسالة ثانية ضد اللغة (إلى شون بوني)* – بالاشتراك مع لمى الخطيب

في هذه المدينة يمكن لحروف العلّة أن تموت. وحروف العلّة إذا ماتت، أو قُتِلَت، أضحت أحجارا. وأنتَ تعرف بالتأكيد من دراستك أنّ الأحجار تصلح أيضاً أن تكون سلاحا. سلاحٌ قد يكون الزمن تخطّاه، لكنّه لا يزال صالحاً لإعطاب القناة الهضميّة الكبيرة التي ابتلعت كلّ شيء. الأحجار يمكن أن تكسر أسنان من يقضمها، ويمكن أن تنشّف ريق من يبلعها، وأن تلبّك أمعاء من يهضمها. الأحجار سوف تهشّم النوافذ، وسوف تضيء الليالي المظلمة عندما تنقطع الكهرباء.


في المكان الخطأ

أردت أن ألقي باليد في الماء وأعود إلى بيتي. لكن اليد التي في حجري قالت بصعوبة: أرجوك ساعدني، يجب أن أعود إلى عملي. فقلت لها: وماذا تعملين؟ فقالت: عملي الكتابة، أنا يد ابن المقفع. ثم سألتني: إلى أي مدينة خرجت؟ فقلت لها إننا في مدينة تدعى برلين. ازدادت النظرات المتفحصة حولنا، وبدأت أشعر بالتوتر. فنهضت من مكاني، وأخفيت اليد تحت قميصي، وأحكمت إغلاق معطفي المبتل.


للموتى … لمن لم يولدوا بعد

أنا لا أعمل في مجال الأدب. لستُ موظفا في جهاز ثقافي يدعى الأدب. علاقتي بالأدب لا يمكن وصفها سوى بأنها ورطة. أنا وقعت في ورطة اسمها الأدب. لذلك فكل كتاباتي ما هي سوى محاولات للخروج من هذه الورطة. ولدي خطة.


الرحلة التي تبدأ من المقابر

نولد في الجرح المفتوح ثم نتعلم شيئًا فشيئًا أن نغمض أعيننا ونبلّد حواسنا حتى لا نراه أو نشعر بألمه. وإذا حدث أن لمحناه نغضّ الطرف سريعًا حتى تسير الحياة، إذ كيف يمكننا أن نضطلع بهذه المهمة المستحيلة؟ كيف يمكننا أن نعيد التفكير في العطب الذي نحن صنيعته؟ كتاب “في أثر عنايات الزيات” هو دعوة لتعلم السير في هذا الدرب الوعر، والذي لا درب غيره، إذا أردنا حقًا النظر إلى الجرح المفتوح داخلنا.


ثمان ملاحظات حول ضرورة تجاوز المستقبل

المستقبل لا يمكن أن يكتب. المستقبل يمكن فقط أن يقرأ. هذا ما عرفه العرافون والمنجمون منذ قديم الأزل. فقد فهموا أن المستقبل لم يكتب بعد، وإنما يختفي بين السطور. لذلك تعلموا كيف يقرؤونه في النجوم والأفلاك، وكيف يستطلعونه بين الأرقام والمصادفات. لذا فإن الأدب لا يستطيع أن يكتب المستقبل حتى ولو حاول ذلك، كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يمد القارئ بعمل أصيل قد يستطيع أن يلمح بين سطوره طيف الآتي، أو بالأحرى يستطيع أن يسمع إشارة إنذار تدق بين جنباته.


أهمية أن يكون الكاتب ميتاً

لم يكن اسم الصباغ غريباً على مسامع شكري، فقد سبق وقرأ له بعض الكتب. وبالرغم من ذلك فقد اندهش شكري كثيراً من هذا اللقاء. والسبب هو رؤيتُه لكاتب أمامه بشحمه ولحمه، لأن شكري كان يظن حتى ذلك الوقت أن الكُتّاب هم إما ميتون وإما متوارون بعيداً. شكري الذي كان آنذاك في بدايات اهتمامه بالأدب، يعلق في روايته تلك على هذا اللقاء قائلاً: “كنت أعتقد أن الأديب لا يُرى في الأماكن العمومية ولا يتحدث إلى الناس كما يفعل محمد الصباغ في هذا المقهى. إن الأديب إما هو خفيّ وإما هو ميّت”.