ما لا يمكن إصلاحه

ما لا يمكن إصلاحه
ما لا يمكن إصلاحه

مقطع من قصة سلطان قانون الوجود

اقتربت السيارة من البناية الأخيرة في البلوك، ثم هدأت سرعتها تدريجيًّا حتى توقفت بالقرب من المدخل. نظر أبو عبير إلى أعلى في اتجاه المنور ثم قال:
– شباك المطبخ مقفول.
ركن أشرف السيارة بجوار البناية في الظل، ثم أطفأ المحرك وأشعل سيجارة، وبقي جامدًا يتطلع من زجاج السيارة أمامه. كان الوقت عصرًا ولم تنكسر الحرارة بعد. تمطت قطة متسخة خارجة من تحت إحدى السيارات وعبرت الطريق، ومن بلكونة الدور الثاني امتدت يد امرأة إلى حبل السبَت المُعلق، وأَرْخته فتدرج هابطًا حتى وصل إلى جوار مدخل البناية، ووقفت تتطلع مستندة إلى سور البلكونة. رمى أشرف بعقب سيجارته من النافذة وقال:
– يكونش خزِّنها عند أخته اللي في السويس؟
فأجاب أبو عبير من دون أن يلتفت:
– ما يلحقش يسافرلها يا أشرف.
فزفر أشرف وسكت.
من بين البنايات المتراصة لاحت رمال صحراء الأهرام القريبة. قال أشرف:
– أنا بقالي كتير ما شفتش الوله أخوه، يكونش…
قاطعه أبو عبير قائلًا:
– يا أشرف إنت عارف إن وليد طه مش تلميذ، ده أحسن واحد يخزِّن، وعمره ما هيخزِّن عند أخته ولا أخوه.
فانفعل أشرف وصاح:
– دي فلوسي يا أبو عبير، فاهم يعني إيه فلوسي؟
وأخذ يضرب بقبضته على مقود السيارة. فردَّ أبو عبير:
– عارف يا اخويا يا أشرف، عارف. آديك شايف ما سبناش حتة غير لما دورنا فيها.
ثم صمتا وعيناهما مثبتتان على زجاج السيارة الأمامي. عاد الطفل وهو يحمل كيسًا بلاستيكيًّا أسود، ووضعه في السبَت، ثم أخذ يصيح باتجاه البلكونة الخالية، وعندما لم يَرُد عليه أحد، أخذ يتعلق في السبَت محاولًا الأرجحة يمينًا ويسارًا. قال أبو عبير:
– وليد معموله عمل يا أشرف.
فشخر أشرف شخرة جافة من دون أن يفتح فمه. عادت المرأة إلى البلكونة وصرخت في الطفل، فتوقف عن الأرجحة، وأخذت ترفع السبَت. وأخيرًا قال أبو عبير بعد أن طال الانتظار:
– روَّق دمك يا أشرف، واطلع نعمل لفَّة لحد ما السُّنِّي يرجع.

ابتعدت السيارة عن مساكن كفر الجبل، وسارت الهوينى على طريق ترعة المنصورية، وما إن تجاوزت معسكر الجيش حتى تناهت إلى أسماع الراكبين أصوات خبطات قوية قادمة من شنطة السيارة الخلفية. كانت الخبطات واضحة رغم صوت محرك السيارة، فأصغى أبو عبير قليلًا إليها ثم أهملها ناظرًا عبر الشباك الجانبي، واستمر أشرف في قيادة السيارة حتى تجاوز منطقة الإنشاءات المجاورة، بعدها انعطف في طريق ترابي غير ممهد، تحفُّ به الأشجار والحقول من الجانبين. سارت السيارة تلفها موجات من الغبار الكثيف، يقطع طريقها من حين لآخر بعض المزارعين الذاهبين إلى حقولهم، وبمرور الوقت اختفى العابرون واختفى من ورائهم الشريط الزراعي الرفيع، حتى وصلت السيارة إلى مقلب قمامة مهجور، فأطفأ أشرف المحرك وترجَّل الرجلان من السيارة، ووقفا يتطلعان حولهما. لم يبقَ من المدينة بأَسرها على مدى البصر سوى صف بعيد من البيوت الصغيرة المبنية بالطوب الأحمر الكابي، مُحاط بلون أخضر باهت. فتح أبو عبير شنطة السيارة، وبحركة واحدة أمسك بالحبل وحمل وليد طه المُلقى في قاع الشنطة من عراقيبه، ووضعه على الأرض، ثم حلَّ وثاق أقدامه، وعلى الفور انتصب وليد طه على قوائمه الأربعة، وأخذ يُصدر صفيرًا من منخاريه وهو يحاول الجري يمينًا ويسارًا، وأبو عبير يشده بقوة من الحبل المربوط حول عنقه، حتى هدأ. استند الرجلان إلى الرفرف الخلفي للسيارة وأخذا يدخنان في صمت، فيما حاول وليد طه الاقتراب من علبة صدئة مُلقاة، فأرخى له أبو عبير الحبل حتى وصل إليها. أدخل خَطْمه داخل العلبة، ثم نفر منها وأزاحها جانبًا. قطع أشرف الصمت قائلًا:
– أنا اللي أستاهل علشان روَّحت يوميها وسبته يخزِّن لوحده.
فأجابه أبو عبير:
– ما تهريش وتُنكت في نفسك يا أشرف. أكيد خزِّن في حتة أمان.
ثم توقف الرجلان عن الكلام وأخذا يتابعان وليد طه وهو يرعى في القمامة. كان يعرج عرجة واضحة، وينبش بقدميه هنا وهناك. وأخيرًا أقعى على الأرض الترابية على حافة المقلب، وخلفه انعكست شمس الأصيل الذهبية على كومة القمامة الهائلة.