خيوط على دوائر

خيوط على دوائر
مجموعة قصصية مشتركة لستة كتاب: أحمد فاروق، أحمد غريب، وائل رجب، نادين شمس، علاء البربري. دار شرقيات – القاهرة ١٩٩٥

عشاء

الثوب الأحمر القطني الثقيل به كرانيش بيضاء عند نهاية الأكمام وفتحة الرقبة، وعند نهاية الثوب حول القدمين. على هذه الكرانيش كانت هناك زهور صغيرة وردية وبرتقالية مرسومة. وفي زاوية الكتف الأيسر هناك فتق صغير يظهر اللون الأزرق الغامق للبلوفر الذي ترتديه تحت الثوب.

أحكمت وضع الشال القطني المصفر حول رأسها، فأطلت خصلة من الشعرات السوداء خارجة من الشال تضم وسطها شعرة بيضاء أو اثنتين. انحنت ببطء إلى درج الملاعق والشوك لتضع الملاعق المغسولة، فانفلتت إحدى الملاعق من يدها لتسقط على الأرضية مصدرةً رنينا سريعا حادا، وأخذت تتلوى وتنتقل من الجزء الذي به الحصيرة الصغيرة إلى البلاط الأبيض، لتستقر على البلاط وهي تهتز بانفعال. انحنت أكثر وأوقفت رنين الملعقة بيدها ثم رفعتها واستدارت ببطء إلى الحوض المعدني ووضعتها تحت تيار الماء.

-ماما… يعني إيه أملاح مستحلبة؟

-ايه؟

-أملاح مستحلبة.

-مش عارفة يا هايدي.

تناثرت قطرات ماء كثيرة على سطح الحوض المعدني. بعض القطرات طارت وسقطت على الطاولة المستطيلة الموضوعة في زاوية المطبخ. وكان الهواء يهز الكرسي الموضوع خلف النافذة الطويلة لإغلاقها، وكان اللوح الزجاجي للنافذة يرتعش في مكانه بدون ضجة، فقط صوت خفيف متقطع.

-يووه. النور انقطع. هاعمل الواجب امتى؟

-زمانه جاي. هاتي الشمعة يا هبة اللي في درج الكوميدينو بتاعي واندهي أخوك علشان تتعشوا.

أحنت الشمعة لكي يسقط الشمع السائل على الطاولة ثم ثبتت الشمعة عليه. -ماما… أنا بردانة قوي، -هبه قومي ولعي البوتاجاز هيجيب شوي دفا، -هبة يعني ايه أملاح مستحلبة؟ -جبت الكلمة دي منين يا هايدي؟ -مكتوبة على علبة الجبنة نستو. -مش عارفة، -ماما عاوز ساندوتش عجوة كبير علشان بردان قوي يا ماما، -طيب يا هاني.

انعكست صورة الطاولة والجالسون حولها على السطح المصقول لنظارتها الكبيرة رغم البقع الداكنة التي على العدسات. غرق الجميع في الصمت لوهلة، وتردد صوت فحيح عيون البوتاجاز المشتعلة في المطبخ بوضوح. -بابا اتصل النهادة وانت في الكلية يا هبة وبيسلم عليك، -والله؟ اتصل امتى؟ عامل إيه، -كويس بس ضهره لسه واجعة شوية، -قولتيله إنك عملت العملية؟- آه، وزعل طبعا… يا ولاد لو ستكم أو عمامكم سألوكم ليه ماما ما قلتش لما جت تعمل العملية قولوا لهم إنها ما كنتش تعرف المعاد بالظبط… ما بحبش حد يشوفني وانا تعبانة… أنا كده.

-هييه… النور جه… النور جه.

غرق المطبخ في الضوء الجديد القادم من اللمبة الصفراء المعلقة، ثم أخذت الأصوات تتزايد، صوت سريات التيار الكهربي في الثلاجة الكبيرة، صوت رجرجة موتور الثلاجة، أصوات الراديو من منور الجيران، أصوات احتكاك الكراسي بالأرض عند قيامهم.

ثبتت قدمها على الأرض وأخذت تنهض، كانت لا تزال منحنية حينما أحست بالألم الشديد مرة أخرى في ساقها، فردت ظهرها ببطء وشعرت بدوار خفيف في رأسها. أمسكت بيدها حافة الطاولة الخشبية، ثم سقطت على الكرسي، ورفعت ساقها اليمنى على الطاولة، فانحسر الثوب القطني الباهت عن ساقها، وظهرت بثور الشعر المنتزع، والتجمعات الدموية الحمراء الغامقة، وثلاثة خطوط عرضية داكنة قصيرة بدت كشق في الجلد بداخلها لون أحمر داكن لدم جاف. من مكانها كانت تستطيع أن ترى انعكاس الضوء القادم من التليفزيون على وجه هايدي الصغيرة الجالسة على الأرض في الغرفة المجاورة.