جماعة الأدب الناقص

جماعة الأدب الناقص
مجموعة قصصية. دار ميريت – القاهرة ٢٠٠٣

المقامة البرلينية

فلما طال بنا الطريق، لجأنا إلى محطة بنزين، نتزود بالوقود ونريح مثاناتنا ونحرك عضلاتنا المتيبسة، حتى انتعشنا فرجعنا إلى السيارة عازمين على إكمال السفر وقطع ما تبقى من مسافة. جلست زوجتي على مقعد القيادة وقد حان دورها، وقبل أن تدير محركها قالت لنلف سيجارة، ففعلنا ثم أعملت المفتاح لنبدأ الحركة، فخرج علينا رجل لا نعرف من أين أتى، وكان أصلعَ أمردَ يرتدي جاكتاً وأوقفنا. ثم سألنا إذا كنا متجهين إلى برلين، فأجبنا بنعم، فاستعطفنا أن نأخذه معه، فنظرت إلى زوجتي ونظرت إلي، ثم أعدنا النظر إليه، وسألناه إذا كان من قطاع الطرق فقال معاذ الله، فقلنا له اركب، فأسرع وأتى بشنطتين عظيمتين وحشرهما في السيارة وأخذ مكانه جوارهما وانطلقنا.
خيم الترقب والحذر للتو على جو السيارة، فها نحن ذا فجأة مع غريب لا نعرفه ولا نعلم مقصده، وكان يجلس خلفنا صامتاً لا ينبس بحرف، والطريق مظلم لا يقطعه سوى عيون السيارات القادمة من الناحية الأخرى كأنها الأشباح. ثم نظرتُ إلى زوجتي فإذا بها تشعل السيجارة الملفوفة، فأعجبت بإشارتها وفرضها لعاداتنا في سيارتنا، وما كدنا نتبادل بضعة أنفاس حتى أطل علينا الأقرع برأسه من المقعد الخلفي وقال والله ما أحسنها من صحبة طريق، ثم انتشل السيجارة.
وقع هذا الأمر على هوى الرجل فما أنهينا السيجارة حتى شرع في لف غيرها، وكانت له عادة غريبة في أن يحمص السيجارة قبل أن يلف بها، فتبعث رائحة غريبة. فخفنا مما يفعل، وسألته ماذا تفعل يا رجل؟ فقال إني أحمص السيجارة حتى تطير الرطوبة فيطيب طعمها. وكان من قالبي الجيم ياءً والسين تاءً على عادة أهل تلك المناطق. ثم قال من يصدق أن الثلاثة أحجار تكلفك الخمسين والستين هناك. فسألته زوجتي عن أي أحجار يتحدث، فقال أقصد الجرامات. ثم طاف بعينه على ما في السيارة وقال: في أحد المرات ركبت مع أحدهم في سيارة هيونداي ولا أعرف أنه مطلوب، حتى وقع المحظور ونصبوا له كميناً في الطريق ولسوء حظي كان معي بعض الأعشاب فقبضوا علي أنا الآخر، لكنهم أفرجوا عني لصغر الكمية. كان قد فرغ من لف سيجارته وأشعلها. فسألته زوجتي عن سبب وجوده في تلك المحطة في تلك الساعة فقال إنه ركب مع رجلين في سيارة جولف ولم يقطعا أكثر من ساعة سفر حتى انحرف السائق إلى محطة البنزين تلك وأخبره أن عليه أن ينزل، فسأل صاحبنا وهل بدر مني شيء؟، قال السائق لا لسبب، ولكنا لا نرغب في الصحبة، فطلب منه أن يرجعه مكان ما أخذه حتى يتسنى له العثور على سيارة أخرى، إلا أن السائق رفض، فتساببا وأنزلوه من السيارة وألقوا بحقائبه.
تبادلنا الأنفاس فسألته ماذا يعمل فقال إنه سقّاف أي يبني الأسقف، وإنه كان يعمل في شتوتجارت ثم انتقل إلى هامبورج طلباً للرزق وأقام فيها حتى قلبت له الدنيا ظهرها، وابتلته بأهوالها فمرضت ابنته الصغيرة حتى ماتت فقرر الذهاب إلى برلين لعل الحظ يبتسم، فتعرف على مجموعة فاسدة من أهل الصنائع وأقام معهم، فضيقوا عليه أسباب الرزق لإنه لا يحمل شهادة مثلهم، فقال في نفسه: والحال هذه وجب علي إكمال السفر، فذهب إلى هايدلبرج طلباً للعلم والشهادة.
لم يكن الأقرع من كثيري الكلام ولكن من كثيري التدخين يحشو السيجارة تلو الأخرى، وكان يحلو له أن يقطع كلامه بدون سبب ثم يوصله من مكان آخر بدون سبب، وله عين باردة كالزجاج. جلست في مقعدي أتفكر فيما قاله وأحاول أن أعرف أي نوع من الرجال ذلك الجالس خلفي، فيما استمرت زوجتي تخوض بنا الطريق المظلم. وكنت أنظر في عينيها من الحين إلى الآخر لأعرف إذا كانت قد تعبت، ثم انتهزنا فرصة انبعاث الموسيقى من الكاسيت وسألتها بصوت لا يسمعه سواها ماذا ترى، فقالت إنها لا تفهم كل ما يقوله، وإنه لا يفهم ما نقوله. وإنه بالتأكيد يفكر أي نوع من المعاتيه نكون.

طالت المسافة فتخيلت السيارة مركبة فضائية قد ابتعدت عن الأرض وأخذت تتهادى حتى وصلنا سطح القمر. وأنا وزوجتي أخذتنا الدهشة مما لم تقع عليه عين بشر من قبل وإذا بنا نخرج لنمرح وسط التلال والوديان الفضية. ثم تذكرت الرجل فعادت إلي مخاوفي ففكرت بيني وبين نفسي ماذا سأفعل إذا لعب الشيطان برأس ذلك الأقرع وحاول مهاجمتنا وكيف سأدافع عن زوجتي وعن نفسي، ومع السيجارة الخامسة طرقت رأسي الفكرة. ثم التفتت إليه وقلت له لماذا تحمل كل هذه الأمتعة وأنت لا تعرف ماذا ستركب، فضحك ضحكته البلهاء وقال: أخبركم الحق فأنا أنقل بيتي. قلنا في نفس واحد: ماذا؟! قال: نعم أنا أنقل بيتي من هايدلبرج عائداً إلى برلين فقد حصلت على الشهادة الفنية وأحد معارفي قبل أن أقيم عنده، وأنا لا نقود لدي فأنزل كل أسبوع إلى هايدلبرج وأحشو حقيبتيّ بما تيسر ثم أخرج على الطريق. في إحدى المرات ركبت مع اثنين في سيارة جاجوار سوداء، وما أن فتحت الباب حتى تصاعدت الرائحة إلى منخاري فقلت ما أطيبها من رائحة! فقالوا أوتضايقك؟ فقلت معاذ الله أقبلوا علي بها، وكان الرجلان ممن يحفون حواجبهم ويكحلون أعينيهم فدخّنا حتى طاب لنا السفر وقالا لي لماذا لا تأتي معنا إلى ميونخ فلنا جماعة هناك، فذهبت معهم وقضيت ثلاثة أيام في النعيم مقيم، آكل وأشرب وأدخن ولا أعلم أين أنا، حتى انقضت المدة وعدت إلى الطريق السريع وهكذا حال الدنيا.

لاحت في الأفق الأنوار فاستبشرنا خيراً، وقام الأقرع يلف سيجارة أخيرة احتفالاً بسلامة الوصول. وفتحنا نوافذ السيارة لتغيير الهواء. ودخلنا المدينة من جنوبها فرأينا برج التليفزيون ومبنى البلدية والإستاد الأوليمبي، ورأينا المحلات المضيئة ولافتات الإعلانات المبهرة حول مركز التجارة، ورأينا السعادة ترتسم على وجوه الناس وهم يشترون حوائجهم أو يعبرون الإشارات، رأينا سيارات الشرطة الخضراء وطائراتها الهيليكوبتر تجوب الأفاق، رأينا أضواء النيون الصاعقة تحمل عبارات الترحيب، ورأينا قطار الضواحي يعبر الجسر المعلق.

أطفأت زوجتي المحرك ونزلتُ أساعد الرجل، وما أن أنزل حقائبه من السيارة واستقام مودعاً حتى واجهته وقلت له انت أبو الفتح لقد عرفتك فقال ما أنا بأبي الفتح، فقلت ومن تكون، قال :
أنا أبو قلمون
في كل لون أكون
اختر من الكسب دوناً
فإن دهرك دون
زجّ الزمان بحمق
إن الزمان زبون
لاتكذِّبن بعقل
ما العقل إلا الجنون.
(الأبيات الأخيرة من المقامة المكفوفية للهمذاني)