بلاد اللاأين

العالم وفقا للإدريسي
هكذا تبدو سلسلة جبال قاف في خريطة الإدريسي (١٠٩٩ – ١١٦٠ م). سلسلة طويلة من أدوات النفي، تدور أسنانها المدببة لتشق العالم وتضمه في آن. مصدر الصورة: ويكيبيديا

يخبرنا السهروردي أن هناك بلاداً تلي أقاليم الدنيا السبعة وتسبق ملكوت الأرواح. بلاد تقع خلف جبل قاف، آخر حدود العالم المحسوس. هذه البلاد يسميها السهروردي “ناكُجا آباد”، وهو تعبير غير مألوف في اللغة الفارسية. البادئة “نا” هي أداة النفي “لا”، وكلمة “كُجا” تعني أين، أما “آباد” فهي الحاضرة الغنّاء. يعني تعبير السهروردي إذن “حاضرة اللاأين”. إنها بلاد متخيلة وواقعية في آن، تتوسّط المعقول والمحسوس، وتُداخل فيما بينهما. ليست هذه البلاد مكانا يمكن السؤال عنه بأداة أين، وإنما هي أقرب إلى الفجوة أو الهوّة. هي حرفيا “لامكان” يقع حولنا في كل مكان، ويمكن أن تنفتح هوّته في أي لحظة، فتهب رياحه على الحاضر. هواؤه قادم من الماضي السحيق، ويحمل معه رغبات المستبعدين وآمال المنسيين، وكلام من لا لسان لهم. بلاد اللاأين قد تكون أحد المواضع التي تتجاوز فيها غنوصية السهروردي نفسها. فهي تكشف عن حيز ينفي المكان الواقعي، ويواجهه بما استبعده ونسيه. أي أنها بلاد لا تكتفي بأن تكون حيزا صوفيا نقيا وبعيدا عن العالم الدنيوي، أو عالما بديلا يمكن الهروب إليه، وإنما تريد أن تكون حيزا أرضيا، تعمل فيه أداة النفي “لا”، وتسري فيه قواها من أجل إحداث شقوق في ما هو قائم.

لم يسبق لأحد أن استخدم تعبير ناكُجا آباد قبل السهروردي، الذي كتب بالفارسية والعربية، ولم يشع استخدامه من بعده. انطلقت معظم قصصه الصوفية من هذا اللامكان، ودارت فيه، حتى ولو لم تسمه دائما. هو إذن مجاز غير مألوف في اللغة، اشتقه كاتب لكي يجد شكلا لتناقض لا يمكن حلّه. تناقض يجسّد اختلاف الواقع مع نفسه، واستحالة انطباقه على نفسه. لذلك يمكن القول إن بلاد اللاأين هي بلاد أدبية، ظهرت إلى الواقع من خلال الكتابة، ولم تكن موجودة من قبل. بل يمكن المضي قدما والقول إن هذه البلاد هي موطن الأدب الأصلي، تنفتح فقط عندما يلامس الأدب الواقع، وهو لا محالة فاعل. بلاد اللاأين تحمل معها مغامرة الكتابة في محاولة إيجاد شكل لتناقضات الواقع، وليس حلّها. مغامرة عواقبها غير محددة سلفا، قد تنجح مرة، وقد تفشل مرات، ويطويها النسيان. وفجوة اللامكان التي تنبثق منها هذه البلاد الأدبية، أو بالأحرى التي تحفرها حفرا، هي نقطة التقاء الكتابة بالواقع، وفيها تكمن إمكانية مراجعته.